بعيدٌ للغاية - قصة قصيرة

 


"هذة الخطوط.. لقد قمت بتقليدها من كتاب ما أليس كذلك؟ لقد نبهتُك عدة مرات! قلت لك أن تسعى لتصبح مختلفًا! ينقصك الكثير.. لن تصبح أبدًا مختلفًا.. لن تتقدّم أبدًأ!".. لا أعلم لمَ أتذكرُ صراخ نادية الآن، نادية.. والدتي وأستاذة الفن التشكيلي المبجّلة في جامعة بروكلين، لم يعجبها أبدًا أي من أعمالي، لقد كنت في الثامنة عشر من العمر.. أحيانًا أشكر الله أن أخذ روحها مبكرًا، لقد كانت حياتي معها أسوأ من الجحيم.

شقتي الضيقة.. نتقابل مجددًا بعد يوم عمل طويل، أشعلت الشموع ووضعتها فوق كعكة الفراولة التي اشتريتها بمناسبة يوم ميلادي.. أتساءل إن عاشت نادية مثلي في سنواتها الأخيرة.. لكانت انسجمت مع وحدتها في هذة الشقة الضيقة.. ولكانت أحبّت هذة الكعكة مثلي.

"هابي بيرثداي تو يو.. هابي بيرثداي تو يو.."، جلست أغنّي لنفسي والابتسامة تعلو وجهي.. لكن سرعان ما اختفت الابتسامة.. لم أكن أتخيل يومًا أن ينتهي بي الأمر كموظف في شركة معكرونة! متى كبرت بهذا الشكل؟ متى أصبحت بدينًأ لهذة الدرجة؟ ولماذا أنا وحيد؟ لقد كنت أعتقد أنني في هذا العمر سأكون متزوجًا من حب حياتي ومعنا ثلاثة أطفال.. اعتقدت أنني سأصبح مصممًا ناجحًا.. أعتقد أن الأحلام سُميت أحلامًا لسبب واضح.. لكن على الأقل يوجد طعام في هذا العالم! وأنا لست مصابًا بالسكر.. سآكل الكعكة كاملةً وحدي!

رنّ هاتفي.. رحب بي صوتٌ حاد قائلًأ: "مساء الخير! هل أتحدث مع الأستاذ جاك ويلسون؟.. مرحبًا بك! لقد أعجبنا تصميمك ونودّ أن نجري مقابلة معك غدًا في العاشرة صباحًا.. سننتظرك إذًا! مع السلامة!"

شركة إل كيو أعجبها تصميمي أنا؟ المقابلة في العاشرة وأنا أعمل في التاسعة.. لنفكر بروِيّة.. أنا في سن لا يسمح لي بأن أفقد عملي.. لكن هذة فرصة لا ولن تتكرّر وأنا أنتظرها منذ أكثر من ثلاثين عامًا! ماذا إن رفضوني لسنّي؟ حسنًا كل هذة الأفكار لا جدوى منها.. لن يطردوني إن تغيبتُ ليوم واحد صحيح؟

لم أستطع النومَ جيدًا، واصلتُ التفكير في كافة الاحتمالات كعادتي.. قررت أن أذهبَ للمقابلة! الساعة الآن الثامنة، تناولتُ الإفطار وارتديتُ بدلتي السوداء.. تبعدُ إل كيو خمس عشرة دقيقة عن بيتي، لكن لا أريد التعرق فاستقليت تاكسي..

نظرات الجميع لي تشعرني بأنني فضائيّ.. لنهدأ! أعلم أن الشركات تفضل الشباب، لكن هذة أمريكا.. يمكن لأي شخص أن يكون ما يريده صحيح؟ سيكون كل شيء على ما يرام!

"أهلًا بكَ سيد جاك.. في البداية هل يمكنكَ أن تعرّفنا بنفسك؟"

حسنًا على الأقل لا يبدون متفاجئين من شعري الأشيب، وعلى العكس ملامحهم راضية عن إجابتي!

"لقد ذكرتَ أنكَ في الخامسة والخمسين، لماذا تريد أن تصبحَ مصممًا في هذة السن ولماذا قدّمت في شركتنا؟"

"في الحقيقة قد يطول شرح الأسباب، لكن سأحاول أن أختصر قدر الإمكان.. طوال الثلاثين عامًا الماضية، لم أتوقف عن المحاولة وكنت أقدم في كل فرصة أراها أمامي.. تخيل منذ كنت في عشرينياتي! التصميم يجعلني حيًا.. أمّا عن سبب تقديمي في شركتكم فكان ببساطة لعدم وجود حد للسن المسموح"

"جميل.. شكرًا لكَ، لقد أحببنا تصميمك فعلًا.. سنتصل بكَ"

أديتُ بشكل جيد، ربما هذة المرة سيفلح الأمر.. لقد توقفت عن عد محاولاتي.. أعتقد أن هذة المحاولة المئة! لسببٍ ما أشعرُ بالثّقل.. لن أذهب للعمل اليوم.

بعد أسبوعين وصلتني رسالة نصّية من الشركة تقول "سيد جاك.. شكرًا لاهتمامك بشركة إل كيو للإعلان ولتخصيصك لنا بعضًا من وقتِك.. يؤسفنا أن نخبرَك أنك لم تجتز المقابلة.."

ماذا توقعت؟ بالطبع سأُرفض.. أتساءل إن كانت نادية في السماء توبخني الآن..

كنتُ أعدّ بعض الشاي، لكنني شعرت بدوارٍ رهيب وكأن شقتي المظلمة أصبحت رأسًا على عقب، انتهى بي الأمر بوقوع الماء المغليّ على قدمي اليمنى، أخذتُ أمشي مترنحًا حتى وصلت لعدة الإسعافات الأولية، عدت إلى السرير بعلة في روحي وعلة في جسدي.

أتساءل.. لمَ الحياة غير عادلة؟ يقولون جد شغفَك واركض وراءه.. حاول.. حاول بجدٍ أكثر.. من يحاول أكثر يصل.. كنت أحاول للثلاثين سنة الماضية ولم أصل بعد.. أمازال ينقصني الكثير؟ أعلم أنني لم أكن يومًا موهوبًا، لكنني عملت بجد حقًا.. أكثر من أيّ شخص.

"جاك.. يا رجل! ماذا تظن نفسك؟ أنت حشرة"

"جاك يا غبيّ.. أنت تمسك القلم بشكل خاطئ!"

"جاك! جاءني اتصال من المدرسة يقولون أنك مفصول! اللعنة! لست جيدًا في أي شيء! ماذا كنت تفعل كل يوم؟"

الأصواتُ تطاردني مجددًا، لا لستُ حشرة، أستطيع الإمساك بالقلم بشكل صحيح الآن، كنت أتعلم الرسم كل يوم، أنتم لا تفهمون شيئًا.. اسكتوا! اسكتوا!

"جاك.. يجب أن ننفصل.. آسفة لا أستطيع الزواج منك"

جينيفر.. قبل يوم واحد من ميعاد زواجنا.. لماذا؟ طوني.. طوني السبب.. أخبرتك أن تبتعدي عنه مرارًا.. يجب أن أفعل شيئًا.. الأصوات ستقتلني.. تكورت على نفسي وحاولت أن أصفع وجهي لأفيق.. لماذا أعود لنقطة البداية؟ لقد تحسنت في السنوات الماضية، لماذا يحدث كل هذا لي أنا؟ أنا فقط؟

"أخبرتُكِ مرارًا يا نادية ألّا تختبري صبري.. انتهى بكِ الأمر بسكينٍ في صدرك.. تستحقين هذا نتيجةً لإذلالك لي.. طوال هذة السنوات عشت مع كم الأذى الجسدي واللفظي لكن ليس بعد الآن!"

خبر في جريدة "الغد": "جريمة وحشية.. موتُ أستاذة الفن التشكيليّ بجامعة بروكيلين نادية جيمس.. 5 طعنات في الصدر و4 في منطقة البطن"

ماذا يدور في عقلي الآن؟ هل جننتُ أخيرًا؟ أنا لم أقتل أحدًا.. صور الدماء في عقلي تشعرُني بالغثيان.. سارعت في الذّهاب إلى المِرحاض وتقيّأت..

أنا فعلت كل ذلك؟ قتلتُ والدتي بوحشية؟ أخذتُ أبكي غير مصدقٍ لما تذكرته للتو..

نهضت ساحبًا قدمي اليمنى ورائي، ارتديت معطفي وأخذتُ أجوب الشوارع باكيًا أحيانًا وفي أحيان أخرى أصفع وجهي.. هذا كابوس.. سأفيق من النوم قريبًا وسأذهب للشركة.. نعم.. كل ما أفكر فيه غير صحيح.. هي أضغاث أحلام.. سأفيق قريبًا..

"لم نجد سلاح الجريمة في أي مكان.. سنكمل تحقيقاتنا يا سيّد جاك لا تقلق"

سلاح الجريمة.. سلاح الجريمة مدفون بجانب قبر أبي، لماذا أعلم هذا؟ لا.. غير صحيح.. يستحيل أن يكون هذا صحيحًا..

ذهبت إلى المقبرة وأخذت أنبش بأظافري، وجدت كيسًا أسود يحوي سكينًا.. إذًا كل هذا ليس مجرد كابوس؟

أخذت الكيس في جيب المعطف وأخذت أجوب الشوارع مرةً أخرى، يجب أن أخفيه! مسحتُ دموعي ومشيت حتى وصلت لقسم شرطة.. لماذا قادتني قدماي إلى هنا؟ كأن جسدي يحكمه عقل آخر غير عقلي..

"اسمي جاك ويلسون.. ولقد قتلتُ نادية جيمس".. قلت للظابط وأنا أسلمه الكيس الأسود.

Comments

  1. Just finished reading it and instantly wished it could be longer, absolutely enjoyed the driven energy in the words.
    Your choice of composition helped to deliver the emotions, making the reader actually relating to every part of the protagonist suffering.
    I loved how you created a loop plot that started and ended at the same point, it was brilliant !
    The reader took a short voyage through the words and then returned home safely with a twist. Very well directed.
    Looking forward for the next story
    Cheers

    ReplyDelete
    Replies
    1. Thank you so much for this detailed review! I'm so happy you liked it! <3

      Delete
  2. أستطيع أن أتوقع أن لك أسلوب مشوق وانسيابي وظريف.. أتمنى أن تقومي بكتابة المزيد من القصص على هذه الشاكلة.. لم أشعر بالملل أثناء قراءتي وكنت أجتاز السطور باهتمام.

    ReplyDelete

Post a Comment