ثلاثة أيام لأرى - هيلين كيلر (الجزء الأول)


مقدمة:

هيلين كيلر أديبة أمريكية، أصيبت بمرض في سن التسعة عشر شهرًا مما أدى إلى فقدانها بصرها وسمعها، تعلمت على يد "آن سوليفان" والتي كانت صبورة معها طوال فترة تعليمها، تتحدث هيلين في هذة المقالة عما تريد فعله إذا مُنِحَت القدرة على الإبصار لمدة ثلاثة أيام، وتستحث القارئ حتى وإن كان مبصرًا على التفكير بهذا الشأن أيضًا، جميعنا الآن نعاني من صعوبة الخروج من المنزل بسبب الوباء الذي حل على العالم أجمع، لذلك إن أردنا تطبيق هذة المقالة على الحاضر، جرب التفكير فيما تريد فعله بشدة بعد انتهاء هذة الفترة الصعبة! ما هي الأشياء التي تود رؤيتها بشدة؟ أتمنى لكم قراءة ممتعة.




قرأنا جميعًا قصصًا مشوقة يكون لدى البطل فيها وقتٌ محددٌ ليعيش، ربما يكون وقتًا طويلًا كسنة، أو قصيرًا كأربعٍ وعشرين ساعة، لكن دائمًا نكون متحمسين لاكتشاف كيفية قضاء هذا الرجل -الذي حُكِم عليه بالهلاك- أيامه أو ساعاته الأخيرة. أتحدث طبعًا عن الأشخاص الحرة التي لها حق الاختيار ولست أتحدث عن المجرمين ذوي النشاطات المحدودة وفي حيز محدود.

   مثل هذة القصص تجعلنا نفكر ونتساءل فيما يمكن لنا فعله إن كنّا في نفس مكانه، فنفكر فيمن سنقابل وفي الأحداث والخبرات التي يمكن أن نغتنمها في هذة الساعات الأخيرة لنا ككائنات فانية، أي سعادة سنجدها عندما نعيد التفكير في الماضي؟ أي ندم؟

لطالما اعتقدت أن قاعدة "عش كل يوم وكأنك ستموت غدًا" قاعدة ممتازة، فمثل هذا التفكير يجعلنا نركز بشدة على قيم الحياة، فيجب أن نعيش كل يوم بلطف وحماسة واستحسان، كل هذا يُفقد حين يتمدد الوقت أمامنا بالتفكير في أن هناك الكثير من الأيام والشهور والسنين القادمة.. بالطبع هناك هؤلاء الذين يتبعون الشعار الإبيقوري "كل واشرب وكن مبتهجًا"، لكن يُهذَّب المعظم حين يشعرون بالموت الوشيك المحتم.

في القصص، غالبًا ما يتم إنقاذ البطل المحكوم عليه بالهلاك في آخر دقيقة بسبب ضربة حظ، ولمامًا ما تتغير قيمه فيصبح مقدرًا أكثر لمعنى الحياة وقيمها الروحية الدائمة، ربما لذلك نشعر بعذوبة ناعمة في كل شيء يفعله من عاش أو يعيش في ظلال الموت.

لكن.. معظمنا يفشل في تقدير الحياة، نحن نعلم أننا سنموت في يوم من الأيام، لكن دائمًا نتصور أن هذا اليوم في المستقبل البعيد، فلا نتخيل موتنا عندما نكون بصحة جيدة ونادرًا ما نفكر فيه، وتتمدد الأيام أمامنا وكأنها مشهد لا نهاية له، مما يجعلنا نستمر في القيام بواجباتنا البسيطة غير مدركين تصرفنا الفاتر تجاه الحياة.

للأسف.. نفس الفتور يؤثر على استخدامنا للحواس.. فقط الصُّم يقدّرون السّمع، كذلك العُميان فقط من يقدرون النعم المتعددة للبصر. ذلك ينطبق خاصةً على من فقد حاستي السمع والبصر بعدما كبر، أما هؤلاء الذين لم يعانوا من تلف في البصر والسمع نادرًا ما يستخدمون هذة النعم على أكمل وجه، تستقبل أعينهم وآذانهم جميع الصور والأصوات لكن بشكل مشتت وبدون تركيز أو استحسان، نفس القصة القديمة التي تنص على عدم الشعور بالنعمة حتى فقدانها، وعلى عدم تقدير الصحة حتى الشعور بالمرض.

أحيانًا أفكر أنها ستكون نعمة كبيرة لو فرض على كل إنسان بالغ أن يختبر العمى والصم لعدة أيام، سيجعله الظلام يقدر البصر، وسيعلمه الصمت أن يقدر مباهج الأصوات.

من حين لآخر أختبر أصدقائي الذين يستطيعون الرؤية لأكتشف ما يرون، منذ مدة قصيرة قامت صديقة بزيارتي بعد فراغها من المشي في الغابة، قمت بسؤالها عما رأته فقالت "لا شيء على وجه الخصوص"، كنت سأتفاجأ فقط إن لم أكن معتادة على سماع مثل هذة الإجابات، فلقد قررت منذ زمن مضى أن من يستطيعون الرؤية في الحقيقة يرون قليلًا..

سألت نفسي كيف يمكن لشخص المشي في الغابة لمدة ساعة كاملة ولا يرى شيئًا يستحق الملاحظة؟ أنا ضريرة ولكن أجد العديد من الأشياء التي تثير استحساني عن طريق اللمس فقط! أستطيع الشعور بتناسق ورقة الشجر الرقيقة، وأمرر يدي بحب على قشرة شجرة البتولا الفضية الناعمة، أو على لحاء شجرة الصنوبر القاسي، وفي الربيع أقوم بلمس فروع الأشجار بحثًا عن البراعم، الإشارة الأولى الدالة على استيقاظ الطبيعة بعد سباتها الشتويّ، وأشعر بملمس الأزهار الناعم والذي يبعث في نفسي الفرحة، أكتشف التفافاتها البارزة.. جزء من معجزة الطبيعة يظهر نفسه إليّ.. ولمامًا عندما أكون محظوظة للغاية، أضع يداي بلطف على شجرة صغيرة لأشعر بارتجافها الذي سببه طائر مغرد، وأشعر بالسعادة عندما تمر ماء الينبوع الباردة خلال أصابعي، بالنسبة إليّ، لمس سجادة مليئة بإبر الصنوبر أو العشب أمر مرحب به أكثر من لمس أغلى سجادة إيرانية، بالنسبة إليّ.. موكب الفصول الأربعة عبارة عن تمثيلية ساحرة لا تنتهي، ذلك الموكب الذي أستطيع الشعور به بأطراف أصابعي.

يصيح قلبي أحيانًا من شدة رغبته في رؤية هذة الأشياء، إذا كنت أستطيع الشعور بكل هذة السعادة من لمسة بسيطة، فكم من الجمال سيظهر نفسه إذا كنت أستطيع الرؤية؟ لكن يبدو أن هؤلاء الذين يستطيعون الرؤية يبصرون قليلًا، بانوراما الألوان والحركات التي تملأ العالم لا يتم تقديرها بما فيه الكفاية، ربما من صفات البشر عدم تقدير ما يملكونه وتقدير ما لا يملكونه، لكن ما زال ذلك يثير الشفقة، ففي عالم النور يتم معاملة نعمة البصر على أنها مجرد رفاهية بدلًا من معاملتها كوسيلة لاكتمال الحياة.

كنت سأنشئ مقررًا إلزاميًا عن "الطريقة السليمة لاستخدام عيونك" إذا كنت رئيسة جامعة ما، وفيه سيحاول المعيد أن يُرِي التلاميذ كيفية إضافة البهجة إلى حياتهم برؤية ما يمر بهم كل يوم ولا يلاحظونه، سيحاول أن يوقظ إمكانياتهم الخاملة المتثاقلة.

ربما بإمكاني توضيح ما أقصده بتخيل ما كنت سأود فعله إذا استطعت الرؤية، قل.. لثلاثة أيام فقط، وبينما أتخيل، حاول أنت أيضًا أن تفكر في كيفية استخدامك لبصرك إذا مُنِحت ثلاثة أيام فقط لترى، إذا كنت تعلم أن الظلام الحالك يقترب منك وأنك لن ترى الشمس تشرق مرة أخرى، كيف ستمضي هذة الأيام الثلاثة؟ على ماذا تود بشدة أن تريح نظرك؟  

بالنسبة إليّ، بالطبع أريد رؤية الأشياء التي أصبحت محببة إليّ خلال سنين ظلامي، أنت أيضًا تود أن تنظر للأشياء المحببة إليك طويلًا.. لتحفر صورهم وتأخذ ذكراهم معك في الظلام الذي يلوح أمامك.

لو حدثت معجزة ما واستطعت الرؤية لثلاثة أيام، وبعدهم سأعود للظلام مرة أخرى، إذًا لابد أن أقسم الفترة لثلاثة أجزاء.

في اليوم الأول، أود رؤية الناس الذين حولوا حياتي إلى حياة تستحق العيش.. بسبب لطفهم وصحبتهم.. في البداية، أود أن أنظر طويلًا إلى وجه معلمتي العزيزة "آن سوليفان ماسي" التي قدِمت إليّ في صغري وفتحت باب العالم الخارجي أمامي، لا أريد أن أنظر إلى ملامح وجهها فقط بل أريد دراسته حتى أحتفظ به في ذاكرتي، أود دراسته حتى أجد علامات الحنان والعطف والصبر الذي جعلها قادرة على هذة المهمة الصعبة - ألا وهي تعليمي. أود النظر في عيونها حتى أرى قوة شخصيتها التي مكنتها من الصمود في وجه الصعاب، حتى أرى رحمتها بجميع البشر.. فلقد أظهرت لي تلك الرحمة العديد من المرات.

لا أعلم ماهية معرفة ما يدور في خاطر صديق عن طريق النظر في "نافذة روحه" – ألا وهي العين، فأنا أرى ملامح الوجه فقط من خلال أطراف أصابعي، يمكنني الشعور بالضحكة والحزن وغيرها من المشاعر الظاهرة، أعرف أصدقائي عن طريق لمس وجوههم لكنني لا أستطيع تخيل شخصياتهم، بالطبع أعرف البعض عن طريق الأفكار التي يبوحون بها إليّ أو أي من تصرفاتهم الواضحة، لكنني لا أفهمهم حق الفهم، وأنا متأكدة أنني سأستطيع تحقيق ذلك برؤيتهم.. بمشاهدة تعبيراتهم في الظروف المختلفة.. بملاحظة تغيرات عيونهم ومحياهم السريعة..

أعرف أصدقائي المقربين حق المعرفة لأنهم يقومون بالإفصاح عن أنفسهم في جميع حالاتهم على مدار الشهور والسنين، لكن صورة غير المقربين مني غير مكتملة، هذة الصورة تكونت بسبب قبضة أيديهم أو كلماتهم التي أقرأها على شفاههم بأطراف أصابعي، أو التي ينقرونها على راحة يدي.

من السهل لك يا من ترى أن تدرك الصفات الأساسية للآخرين فقط برؤية تعبيراتهم أو ارتجاف عضلاتهم، أو ارتجاف أيديهم، لكن هل استخدمت بصرك لرؤية الطبيعة الداخلية لصديق ما لتعرفه معرفة كاملة من قبل؟ أليس ما يفعله معظمكم هو إدراك التعابير الخارجية للوجه فقط؟

هل يمكنك مثلًا أن تصف وجوه خمسة من أصدقائك الجيدين بدقة؟ بعضكم يمكنه ذلك، لكن الكثير لا يستطيع، قمت بسؤال بعض الأزواج من زيجات طويلة عن لون عيون زوجاتهم كتجربة، غالبًا كانوا يظهرون حيرتهم بإحراج ويقولون أنهم لا يعلمون، وتبعًا لذلك تشكو الزوجات من أزواجهن، فلا يمكنهم ملاحظة فساتينهن أو قبعاتهن الجديدة، أو حتى التغير الذي حدث في ترتيبات المنزل.

عيون من يستطيعون الرؤية تعتاد على ما حولهم من أشياء، فلا يلاحظون إلا الأشياء المدهشة والصارخة، لكن حتى عند رؤيتهم لأكثر الأشياء روعة، تكون عيونهم خاملة، فكل يوم تظهر سجلات المحاكم عدم دقة ما يراه الشهود، فحدث واحد يتم رؤيته بطرق مختلفة، البعض يرى أكثر من الآخرين، لكن أقلاء فقط من يرون كل شيء حدث داخل منطقة رؤيتهم.

آه! الأشياء التي سأود رؤيتها لو كانت عندي قدرة الإبصار لثلاثة أيام!

اليوم الأول سيكون مشغولًا، سأتصل بجميع أصدقائي الأعزاء وأنظر إلى وجوههم طويلًا طابعةً العلامات الخارجية التي تدل على وجود جمال بداخلهم، يجب أيضًا أن أنظر طويلًا إلى وجه طفل رضيع، حتى أستطيع رؤية ذاك الجمال البريء المتلهف الذي يذهب بوعي الناس بعيدًا عن صراعات الحياة.

سأود أن أنظر إلى عيون كلابي البارة: الوقور الماكر "داركي" الصغير من النوع الاسكتلندي، والشجاعة المتفهمة "هيلجا" من النوع الدنماركي الضخم، فكلاهما وفرا لي صداقة رقيقة دافئة وممتعة تريحني.

خلال اليوم الأول المزدحم، سأود أيضًا أن أرى الأشياء الصغيرة البسيطة في منزلي، أود رؤية الألوان الدافئة للسجاد تحت قدمي، والصور على الحائط، والأشياء الصغيرة الحميمية التي تحول البيت إلى مكان مألوف، سأحب أن أرى الكتب التي قرأتها، لكن سأتحمس أكثر لرؤية الكتب المطبوعة التي يقرأها من يبصرون، فطوال حياة الظلام التي عشتها، كانت الكتب التي قرأتها أو قُرِأت لي بمثابة منارة، فقد أظهرت لي السبيل إلى كيفية حياة البشر وكذلك الروح البشرية.

بعد ظهيرة اليوم الأول، سأمشي طويلًا في الغابة وأرى جمال عالم الطبيعة حتى تسكر عيناي، سأحاول في ساعات قليلة أن أطبع صورة هذة الروعة الشاسعة التي تظهر نفسها دائمًا للمبصرين، وفي طريق العودة، سأحب أن أمر على مزرعة حتى أرى الأحصنة الصبورة وهي تحرث الأرض (أو ربما سأرى جرارًا فقط!)، وأرى سكينة من يعيشون حياتهم بالقرب من التربة (تقصد الفلاحين)،  سأصلي كذلك من أجل أن أرى عظمة غروب شمس ملون.

وحين يأتي الغسق، سأختبر فرحة أخرى بجانب الإبصار وهي الرؤية بسبب المصابيح التي اخترعها إنسان عبقري ليطيل مدة قدرته على الرؤية عندما تقوم الطبيعة بفرض الظلام عليه..

وأخيرًا حين يأتي الليل، لن أستطيع النوم بسبب امتلاء رأسي بذكريات اليوم..

 

-يُتبَع-


Comments